الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الفصل الثلاثون: في علم الكيمياء: وهو علم ينظر في المادة التي يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة ويشرح العمل الذي يوصل إلى ذلك فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها وقواها لعلهم يعثرون على المادة المستعدة لذلك حتى من العضلات الحيوانية كالعظام والريش والبيض والعذرات فضلا عن المعادن ثم يشرح الأعمال التي تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية يالتصعيد والتقطير وجمد الذائب منها بالتكليس وإمهاء الصلب بالقهر والصلابة وأمثال ذلك وفي زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلها جسم طبيعي يسمونه الإكسير وأنه يلقى منه على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة بالاستعداد القريب من الفعل مثل الرصاص والقصدير والنحاس بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهبا إبريزا ويكنون عن ذلك الإكسير إذا ألغزوا في اصطلاحاتهم بالروح وعن الجسم الذي يلقى عليه بالجسد فشرح هذه الاصطلاحات وصورة هذا العمل الصناعي الذي يقلب هذه الأجساد المستعدة إلى صورة الذهب والفضة هو علم الكيمياء وما زال الناس يؤلفون فيها قديما وحديثا وربما يعزى الكلام فيها إلى من ليس من أهلها وإمام المدونين فيها جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز وزعموا أنه لا يفتح مقفلها إلا من أحاط علما بجميع ما فيها والطغرائي من حكماء المشرق المتأخرين له فيها دواوين ومناظرات مع أهلها وغيرهم من الحكماء وكتب فيها مسلمة المجريطي من حكماء الأندلس كتابه الذي سماه رتبة الحكيم وجعله قرينا لكتابه الآخر في السحر والطلسمات الذي سماه غاية الحكيم وزعم أن هاتين الصناعتين هما نتيجتان للحكمة وثمرتان للعلوم ومن لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم والحكمة أجمع وكلامه في ذلك الكتاب وكلامهم أجمع في تآليفهم هي ألغاز يتعذر فهمها على من لم يعان اصطلاحاتهم في ذلك ونحن نذكر سبب عدولهم إلى هذه الرموز والألغاز ولابن المغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشعر ملغوزة كلها لغز الأحاجي والمعاياة فلا تكاد تفهم وقد ينسبون للغزالي رحمه الله بعض التآليف فيها وليس بصحيح لأن الرجل لم تكن مداركه العالية لتقف عن خطأ ما يذهبون إليه حتى ينتحله وربما نسبوا بعض المذاهب والأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم ومن المعلوم البين أن خالدا من الجيل العربي والبداوة إليه أقرب فهو بعيد عن العلوم والمهناج بالجملة فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات وأمزجتها وكتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات والطب لم تظهر بعد ولم تترجم أللهم إلا أن يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصناعية تشبه باسمه فممكن وأنا أنقل لك هنا رسالة أبي بكر بن بشرون لأبي السمح في هذه الصناعة وكلاهما من تلاميذ مسلمة فيستدل من كلامه فيها على ما ذهب إليه في شأنها إذا أعطيته حقه من التأمل قال ابن بشرون بعد صدر من الرسالة خارج عن الغرض: والمقدمات التي لهذه الصناعة الكريمة قد ذكرها الأولون واقتص جميعها أهل الفلسفة من معرفة تكوين المعادن وتخلق الأحجار والجواهر وطباع البقاع والأماكن فمنعنا اشتهارها من ذكرها ولكن أبين لك من هذه الصنعة ما يحتاج إليه فتبدأ بمعرفته فقد قالوا: ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولا ثلاث خصال: أولها هل تكون؟ والثانية من أي تكون؟ والثالثة من أي كيف تكون؟ فإذا عرف هذه الثلاثة وأحكمها فقد ظفر بمطلوبه وبلغ نهايته من هذا العلم وأما البحث عن وجوبها والاستدلال عن تكونها فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير وأما من أي شيء تكون فإنما يريدون بذلك البحث عن الحجر الذي يمكنه العمل وإن كان العمل موجودا من كل شيء بالقوة لأنها من الطبائع الأربع منها تركبت ابتداء وإليها ترجع انتهاء ولكن من الأشياء ما يكون فيه بالقوة ولا يكون بالفعل وذلك أن منها ما يمكن تفصيلها تعالج وتدبر وهي التي تخرج من القوة إلى الفعل والتي لا يمكن تفصيلها لا تعالج ولا تدبر لأنها فيها بالقوة فقط وإنما لم يمكن تفصيلها لاستغراق بعض طبائعها في بعض وفضل قوة الكبير منها على الصغير فينبغي لك وفقك الله أن تعرف أوفق الأحجار المنفصلة التي يمكن فيها العمل وجنسه وقوته وعمله وما تدبر من الحل والعقد والتنقية والتكليس والتنشيف والتقليب فإن من لم يعرف هذه الأصول التي هي عماد هذه الصنعة لم ينجح ولم يظفر بخير أبدا وينبغي لك أن تعلم هل يمكن أن يستعان عليه بغيره أو يكتفى به وحده وهل هو واحد في الابتداء أو شاركه غيره فصار في التدبير واحدا فسمي حجرا وينبغي لك أن تعلم كيفية عمله وكمية أوزانه وأزمانه وكيف تركيب الروح فيه وإدخال النفس عليه؟ وهل تقدر النار على تفصيلها منه بعد تركيبها؟ فإن لم تقدر فلأي علة وما السبب الموجب لذلك؟ فان هذا هو المطلوب فافهم واعلم أن الفلاسفة كلها مدحت النفس وزعمت أنها المدبرة للجسد والحاملة له والدافعة عنه والفاعلة فيه وذلك أن الجسد إذا خرجت النفس منه مات وبرد فلم يقدر على الحركة والامتناع من غيره لأنه لا حياة فيه ولا نور وإنما ذكرت الجسد والنفس لأن هذه الصفات شبيهة بجسد الإنسان الذي تركيبه على الغذاء والعشاء وقوامه وتمامه بالنفس الحية النورانية التي بها يفعل العظائم والأشياء المقابلة التي لا يقدر عليها غيرها بالقوة الحية التي فيها وإنما انفعل الإنسان لاختلاف تركيب طبائعه ولو اتفقت طبائعه لسلمت من الأعراض والتضاد ولم تقدر النفس على الخروج من بدنه ولكان خالدا باقيا فسبحان مدبر الأشياء تعالى واعلم أن الطبائع التي يحدث عنها هذا العمل كيفية دافعة في الابتداء فيضية محتاجة إلى الانتهاء وليس لها إذا صارت في هذا الحد أن تستحيل إلى ما منه تركبت كما قلناه آنفا في الإنسان لأن طبائع هذا الجوهر قد لزم بعضها بعضا وصارت شيئا واحدا شبيها بالنفس في قوتها وفعلها وبالجسد في تركيبه ومجسته بعد أن كانت طبائع مفردة بأعيانها فيا عجبا من أفاعيل الطبائع إن القوة للضعيف الذي يقوى على تفصيل الأشياء وتركيبها وتمامها فلذلك قلت قوي وضعيف وإنما وقع التعبير والفناء في التركيب الأول للاختلاف وعدم ذلك في الثاني للاتفاق وقد قال بعض الأولين التفصيل والتقطيع في هذا العمل حياة وبقاء والتركيب موت وفناء وهذا الكلام دقيق المعنى لأن الحكيم أراد بقوله حياة وبقاء خروجه من العدم إلى الوجود لأنه ما دام على تركيبه الأول فهو فان لا محالة فإذا ركب التركيب الثاني عدم الفناء والتركيب الثاني لا يكون إلا بعد التفصيل والتقطيع فإذا التفصيل والتقطيع في هذا العمل خاصة فإذا بقي الجسد المحلول انبسط فيه لعدم الصورة لأنه قد صار في الجسد بمنزلة النفس التي لا صورة لها وذلك أنه لا وزن له فيه وسترى ذلك إن شاء الله تعالى وقد ينبغي لك أن تعلم أن اختلاط اللطيف باللطيف أهون من اختلاط الغليظ وإنما أريد بذلك التشاكل في الأرواح والأجساد لأن الأشياء تتصل بأشكالها وذكرت لك ذلك لتعلم أن العمل أوفق وأيسر من الطبائع اللطائف الروحانية منها من الغليظة الجسمانية وقد يتصور في العقل أن الأحجار أقوى وأصبر على النار من الأرواح كما ترى أن الذهب والحديد والنحاس أصبر على النار من الكبريت والزئبق وغيرهما من الأرواح فأقول إن الأجساد قد كانت أرواحا في بدنها فلما أصابها حر الكيان قلبها أجسادا لزجة غليظة فلم تقدر النار على أكلها لإفراط غلظها وتلزجها فإذا أفرطت النار عليها صيرتها أرواحا كما كانت أول خلقها وإن تلك الأرواح اللطيفة إذا أصابتها النار أبقت ولم تقدر على البقاء عليها فينبغي لك أن تعلم ما صير الأجساد في هذه الحالة وصير الأرواح في هذا الحال فهو أجل ما تعرفه أقول إنما أبقت تلك الأرواح لاشتعالها ولطافتها وإنما اشتعلت لكثرة رطوبتها ولأن النار إذا أحست بالرطوبة تعلقت بها لأنها هوائية تشاكل النار ولا تزال تغتذي بها إلى أن تفنى وكذلك الأجساد إذا أحست بوصول النار إليها لقلة تلزجها وغلظها وإنما صارت تلك الأجساد لا تشتعل لأنها مركبة من أرض وماء صابر على النار فلطيفه متحد بكثيفه لطول الطبخ اللين المازج للأشياء وذلك أن كل متلاش إنما يتلاشى بالنار لمفارقة لطيفه من كثيفه ودخول بعضه في بعض على غير التحليل والموافقة فصار ذلك الانضمام والتداخل مجاورة لا ممازجة فسهل بذلك افتراقهما كالماء والدهن وما أشبههما وإنما وصفت ذلك لتستدل به على تركيب الطبائع وتقابلها فإذا علمت ذلك علما شافيا فقد أخذت حظك منها وينبغي لك أن تعلم أن الأخلاط التي هي طبائع هذه الصناعة موافقة بعضها لبعض مفصلة من جوهر واحد يجمعها نظام واحد بتدبير واحد لا يدخل عليه غريب في الجزء منه ولا في الكل كما قال الفيلسوف: إنك إذا أحكمت تدبير الطبائع وتآليفها ولم تدخل عليها غريبا فقد أحكمت ما أردت إحكامه وقوامه إذ الطبيعة واحدة لا غريب فيها فمن أدخل عليها غريبا فقد زاغ عنها ووقع في الخطأ واعلم أن هذه الطبيعة إذا حل لها جسد من قرائنها على ما ينبغي في الحل حتى يشاكلها في الرقة واللطافة انبسطت فيه وجرت معه حيثما جرى لأن الأجساد ما دامت غليظة جافية لا تنبسط ولا تتزاوج وحل الأجساد لا يكون بغير الأرواح فافهم هداك الله هذا القول واعلم هداك الله أن هذا الحل في جسد الحيوان هو الحق الذي لا يضمحل ولا ينقص وهو الذي يقلب الطبائع ويمسكها ويظهر لها ألوانا وأزهارا عجيبة وليس كل جسد يحل خلاف هذا هو الحل التام لأنة مخالف للحياة فإنما حله بما يوافقه ويدفع عنه حرق النار حتى يزول عن الغلظ وتنقلب الطبائع عن حالاتها إلى ما لها أن تنقلب من اللطافة والغلظ فإذا بلغت الأجساد نهايتها من التحليل والتلطيف ظهرت لها هنالك قوة تمسك وتغوص وتقلب وتنفذ وكل عمل لا يرى له مصداق في أوله فلا خير فيه واعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء ويعقد رطوبتها والحار منها يظهر رطوبتها ويعقد يبسها وإنما أفردت الحر والبرد لأنهما فاعلان والرطوبة واليبس منفعلان وعلى انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام وتتكون وإن كان الحر أكثر فعلا في ذلك من البرد لأن البرد ليس له نقل الأشياء ولا تحركها والحر هو علة الحركة ومتى ضعفت علة الكون وهو الحرارة لم يتم منها شيء أبدا كما إنه إذا أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثم برد أحرقته وأهلكته فمن أجل هذه العلة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كل ضد على ضده ويدفع عنه حر النار ولم يحذر الفلاسفة أكبر شيء إلا من النيران المحرقة وأمرت بتطهير الطبائع والأنفاس وإخراج دنسها ورطوبتها ونفور آفاتها وأوساخها عنها على ذلك استقام رأيهم وتدبيرهم فإنما عملهم إنما هو مع النار أولا وإليها يصير أخيرا فلذلك قالوا: إياكم والنيران المحرقات وإنما أرادوا بذلك نفي الآفات التي معها فتجمع على الجسد آفتين فتكون أسرع لهلاكه وكذلك كل شيء إنما يتلاشى ويفسد من ذاته لتضاد طبائعه واختلافه فيتوسط بين شيئين فلم يجد ما يقويه ويعينه إلا قهرته الآفة وأهلكته واعلم أن الحكماء كلها ذكرت ترداد الأرواح على الأجساد مرارا ليكون ألزم إليها وأقوى على قتال النار إذا هي باشرتها عند الإلفة أعني بذلك النار العنصرية فاعلمه ولنقل الآن على الحجر الذي يمكن منه العمل على ما ذكرته الفلاسفة فقد اختلفوا فيه فمنهم من زعم أنه في الحيوان ومنهم من زعم أنه في النبات ومنهم من زعم أنه في المعادن ومنهم من زعم أنه في الجميع وهذه الدعاوى ليست بنا حاجة إلى استقصائها ومناظرة أهلها عليها لأن الكلام يطول جدا وقد قلت فيما تقدم إن العمل يكون في كل شيء بالقوة لأن الطبائع موجودة في كل شيء فهو كذلك فنريد أن تعلم من أي شيء يكون العمل بالقوة والفعل فنقصد إلى ما قاله الحراني إن الصبغ كله أحد صبغين: إما صبغ جسد كالزعفران في الثوب الأبيض حتى يحول فيه وهو مضمحل منتقض التركيب والصبغ الثاني تقليب الجوهر من جوهر نفسه إلى جوهر غيره ولونه كتقليب الشجر بل التراب إلى نفسه وقلب الحيوان والنبات الى نفسه حتى يصير التراب نباتا والنبات حيوانا ولا يكون إلا بالروح الحي والكيان الفاعل الذي له توليد الأجرام وقلب الأعيان فإذا كان هذا هكذا فنقول إن العمل لابد أن يكون إما في الحيوان وإما في النبات وبرهان ذلك أنهما مطبوعان على الغذاء وبه قوامهما وتمامهما فأما النبات فليس فيه ما في الحيوان من اللطافة والقوة ولذلك قل خوض الحكماء فيه وأما الحيوان فهو آخر الاستحالات الثلاث ونهايتها وذلك أن المعدن يستحيل نباتا والنبات يستحيل حيوانا والحيوان لا يستحيل إلى شيء هو الطف منه إلا أن ينعكس راجعا إلى الغلظ وأنه أيضا لا يوجد في العالم شيء تتعلق فيه الروح الحية غيره والروح ألطف ما في العالم ولم تتعلق الروح بالحيوان إلا بمشاكلته إياها فأما الروح التي في النبات فإنها يسيرة فيها غلظ وكثافة وهي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه لغلظها وغلظ جسد النبات فلم يقدر على الحركة لغلظه وغلظ روحه والروح المتحركة ألطف من الروح الكامنة كثيرا وذلك أن المتحركة لها قبول الغذاء والتنقل والتنفس وليس للكامنة غير قبول الغذاء وحده ولا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض عند الماء كذلك النبات عند الحيوان فالعمل في الحيوان أعلى وأرفع وأهون وأيسر فينبغي للعاقل إذا عرف ذلك أن يجرب ما كان سهلا ويترك ما يخشى فيه عسرا واعلم أن الحيوان عند الحكماء ينقسم أقساما من الأمهات التي هي الطبائع والحديثة التي هي المواليد وهذا معروف متيسر الفهم فلذلك قسمت الحكماء العناصر والمواليد أقساما حية وأقساما ميتة فجعلوا كل متحرك فاعلا حيا وكل ساكن مفعولا ميتا وقسموا ذلك في جميع الأشياء وفي الأجساد الذائبة وفي العقاقير المعدنية فسموا كل شيء يذوب في النار ويطير ويشتعل حيا وما كان على خلاف ذلك سموه ميتا فأما الحيوان والنبات فسموا كل ما انفصل منها طبائع أربعا حيا وما لم ينفصل سموه ميتا ثم إنهم طلبوا جميع الأقسام الحية فلم يجدوا لوفق هذه الصناعة مما ينفصل فصولا أربعة ظاهرة للعيان ولم يجدوا غير الحجر الذي في الحيوان فبحثوا عن جنسه حتى عرفوه وأخذوه ودبروه فتكيف لهم منه الذي أرادوا وقد يتكيف مثل هذا في المعادن والنبات بعد جمع العقاقير وخلطها ثم تفصل بعد ذلك فأما النبات فمنه ما ينفصل ببعض هذه الفصول مقل الأشنان وأما المعادن ففيها أجساد وأرواح وأنفاس إذا مزجت ودبرت كان منها ما له تأثير وقد دبرنا كل ذلك فكان الحيوان منها أعلى وأرفع وتدبيره أسهل وأيسر فينبغي لك أن تعلم ما هو الحجر الموجود في الحيوان وطريق وجوده إنا بينا أن الحيوان أرفع المواليد وكذا ما تركب منه فهو ألطف منه كالنبات من الأرض وإنما كان النبات ألطف من الأرض لأنه إنما يكون من جوهره الصافي وجسده اللطيف فوجب له بذلك اللطافة والرقة وكذا هذا الحجر الحيواني بمنزلة النبات في التراب وبالجملة فإنه ليس في الحيوان شيء ينفصل طبائع أربعا غيره فافهم هذا القول فإنة لا يكاد يخفى إلا على جاهل بين الجهالة ومن لا عقل له فقد أخبرتك ماهية هذا الحجر وأعلمتك جنسه وأنا أبين لك وجوه تدابيره حتى يكمل الذي شرطناه على أنفسنا من الإنصاف إن شاء الله سبحانه.التدبير على بركة الله خذ الحجر الكريم فأودعه القرعة والإنبيق وفصل طبائعه الأربع التي هي النار والهواء والأرض والماء وهي الجسد والصبغ فإذا عزلت الماء عن التراب والهواء عن النار فارفع كل واحد في إنائه على حدة وخذ الهابط أسفل الإناء وهو الثفل فاغسله بالنار الحارة حتى تذهب النار عنه سواده ويزول غلظه وجفاؤه وبيضه تبييضا محكما وطير عنه فضول الرطوبات المستجنة فيه فإنه يصير عند ذلك ماء أبيض لا ظلمة فيه ولا وسخ ولا تضاد ثم اعمد إلى تلك الطبائع الأول الصاعدة منه فطهرها أيضا من السواد والتضاد وكرر عليها الغسل والتصعيد حتى تلطف وترق وتصفو فإذا فعلت ذلك فقد فتح الله عليك فابدأ بالتركيب الذي عليه مدار العمل وذلك أن التركيب لا يكون إلا بالتزويج والتعفين فأما التزويج فهو اختلاط اللطيف بالغليظ وأما التعفين فهو التمشية والسحق حتى يختلط بعضه ببعض ويصير شيئا واحدا لا اختلاف فيه ولا نقصان بمنزلة الامتزاج بالماء فعند ذلك يقوى الغليظ على إمساك اللطيف وتقوى الروح على مقابلة النار وتصبر عليها وتقوى النفس على الغوص في الأجساد والدبيب فيها وإنما وجد ذلك بعد التركيب لأن الجسد المحلول لما ازدوج بالروح مازجه بجميع أجزائه ودخل بعضها في بعض لتشاكلها فصار شيئا واحدا ووجب من ذلك أن يعرض للروح من الصلاح والفساد والبقاء والثبوت وما يعرض للجسد لموضع الإمتزاج وكذلك النفس إذا امتزجت بهما ودخلت فيهما بخدمة التدبير اختلطت أجزاؤها بجميع أجزاء الآخرين أعني الروح والجسد وصارت هي وهما شيئا واحدا لا اختلاف فيه بمنزلة الجزء الكلي الذي سلمت طبائعه واتفقت أجزاؤه فإذا ألقى هذا المركب الجسد المحلول وألح عليه النار وأظهر ما فيه من الرطوبة على وجهه ذاب في الجسد المحلول ومن شأن الرطوبة الاشتمال وتعلق النار بها فإذا أرادت النار التعلق بها منعها من الاتحاد بالنفس ممازجة الماء لها فإن النار لا تتحد بالدهن حتى يكون خالصا وكذلك الماء من شأنه النفور من النار فإذا ألحت عليه النار وأرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه فمنعه من الطيران فكان الجسد علة لإمساك الماء والماء علة لبقاه الدهن والدهن علة لثبات الصبغ والصبغ علة لظهور الدهن واظهار الدهنية في الأشياء المظلمة التي لا نور لها ولا حياة فيها فهذا هو الجسد المستقيم وهكذا يكون العمل وهذه التصفية التي سألت عنها وهي التي سمتها الحكماء بيضة وإياها يعنون لا بيضة الدجاج واعلم أن الحكماء لم تسميها بهذا الاسم لغير معنى بل أشبهتها ولقد سألت مسلمة عن ذلك يوما وليس عنده غيري فقلت له: أيها الحكيم الفاضل أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة؟ اختيارا منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه؟ فقال: بل لمعنى غامض فقلت أيها الحكيم وما ظهر لهم من ذلك من المنفعة والاستدلال على الصناعة حتى شبهوها وسموها بيضة؟ فقال: لشبهها وقرابتها من المركب ففكر فيه فإنه سيظهر لك معناه فبقيت بين يديه مفكرا لا أقدر على الوصول إلى معناه فلما رأى ما بي من الفكر وأن نفسي قد مضت فيها أخذ بعضدي وهزني هزة خفيفة وقال لي: يا أبا بكر ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند امتزاج الطبائع وتأليفها فلما قال ذلك انجلت عني الظلمة وأضاء لى نور قلبي وقوي عقلي على فهمه فنهضت شاكرا الله عليه إلى منزلي وأقمت على ذلك شكلا هندسيا يبرهن به على صحة ما قاله مسلمة وأنا واضعه لك في هذا الكتاب مثال ذلك أن المركب إذا تم وكمل كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء كنسبة ما في المركب من طبيعة النار إلى ما في البيضة من طبيعة النار وكذلك الطبيعتان الأخريان الأرض والماء فأقول: إن كل شيئين متناسبين على هذه الصفة هما متشابهان ومثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزرح فإذا أردنا ذلك فإنا نأخذ أقل طبائع المركب وهي طبيعة اليبوسة ونضيف إليها مثلها من طبيعة الرطوبة وندبرهما حتى تنشف طبيعة اليبوسة طبيعة الرطوبة وتقبل قوتها وكأن في هذا الكلام رمزا ولكنه لا يخفى عليك ثم تحمل عليهما جميعا مثليهما من الروح وهو الماء فيكون الجميع ستة أمثال ثم تحمل على الجميع بعد التدبير مثلا من طبيعة الهواء التي هي النفس وذلك ثلاثة أجزاء فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوة وتحمل تحت كل ضلعين من المركب الذي طبيعته محيطة بسطح المركب طبيعتين فتجعل أولا الضلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء وطبيعة الهواء وهما ضلعا ا ح د وسطح ابجد وكذلك الضلعان المحيطان بسطح البيضة اللذان هما الماء والهواء ضلعا هزوح فأقول أن سطح ابجد يشبه سطح هزوح طبيعة الهواء التي تسمى نفسا وكذلك بجـ من سطح المركب والحكماء لم تسم شيئا باسم شيء إلا لشبهه به والكلمات التي سألت عن شرحها الأرض المقدسة وهي المنعقدة من الطبائع العلوية والسفلية والنحاس هو الذي أخرج سواده وقطع حتى صار هباء ثم حمر بالزاج حتى صار نحاسيا والمغنيسيا حجرهم الذي تجمد فيه الأرواح وتخرجه الطبيعة العلوية التي تستجن فيها الأرواح لتقابل عليها النار والفرفرة لون أحمر قان يحدثه الكيان والرصاص حجر له ثلاث قوى مختلفة الشخوص ولكنها متشاكلة ومتجانسة فالواحدة روحانية نيرة صافية وهي الفاعلة والثانية نفسانية وهي متحركة حساسة غير أنها أغلظ من الأولى ومزكزها دون مركز الأولى والثالثة قوة أرضية حاسة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها وهي الماسكة الروحانية والنفسانية جميعا والمحيطة بهما وأما سائر الباقية فمبتدعة ومخترعة إلباسا على الجاهل ومن عرف المقدمات استغنى عن غيرها فهذا جميع ما سألتني عنه وقد بعثت به إليك مفسرا ونرجو بتوفيق الله أن تبلغ أملك والسلام انتهى كلام ابن بشرون وهو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطي شيخ الأندلس في علوم الكيمياء والسيمياء والسحر في القرن الثالث وما بعده وأنت ترى كيف صرف ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الزمز والألغاز التي لا تكاد تبين ولا تعرف وذلك دليل على أنها ليست بصناعة طبيعية والذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء وهو الحق الذي يعضده الواقع أنها من جنس آثار النفوس الروحانية وتصرفها في عالم الطبيعة إما من نوع الكرامة إن كانت النفوس خيرة أو من نوع السحر إن كانت النفوس شريرة فاجرة فأما الكرامة فظاهرة وأما السحر فلأن الساحر كما ثبت في مكان تحقيقه يقلب الأعيان المادية بقوته السحرية ولابد له مع ذلك عندهم من مادة يقع فعله السحري فيها كتخليق بعض الحيوانات من مادة التراب أو الشجر والنبات وبالجملة من غير مادتها المخصوصة بها كما وقع لسحرة فرعون في الحبال والعصي وكما ينقل عن سحرة السودان والهنود في قاصية الجنوب والترك في قاصية الشمال أنهم يسحرون الجو للأمطار وغير ذلك ولما كانت هذه تخليقا للذهب في غير مادته الخاصة به كان من قبيل السحر والمتكلمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر ومسلمة ومن كان قبلهم من حكماء الأمم إنما نحوا هذا المنحى ولهذا كان كلامهم فيه ألغازا حذرا عليها من إنكار الشرائع على السحر وأنواعه لا أن ذلك يرجع إلى الضنانة بها كما هو رأي من لم يذهب إلى التحقيق في ذلك وانظر كيف سمى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم وسمى كتابه في السحر والطلسمات غاية الحكيم إشارة إلى عموم موضوع الغاية وخصوص موضوع هذه لأن الغاية أعلى من الرتبة فكان مسائل الرتبة بعض من مسائل الغاية وتشاركها في الموضوعات ومن كلامه في الفنين يتبين ما قلناه ونحن نبين فيما بعد غلط من يزعم أن مدارك هذا الأمر بالصناعة الطبيعية والله العليم الخبير.
|